الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وضمائر الغيبة مراد منها كفار قريش، أي مُتولوا تدبيرَ أمورهم.وغُيّر الأسلوب من خطابهم في آيات {ربكم الذي يزجى لكم الفلك في البحر} [الإسراء: 66] إلى الإقبال على خطاب النبي لتغير المقام من مقام استدلال إلى مقام امتنان.والفتْن والفتون: معاملةُ يلحق منها ضُرّ واضطراب النفس في أنواع من المعاملة يعسر دفعها، من تغلب على القوة وعلى الفِكر، وتقدم في قوله تعالى: {والفتنة أشد من القتل} في سورة [البقرة: 191].وعدى {يفتنونك} بحرف {عَن} لتضمينه معنى فعلٍ كان الفَتن لأجله، وهو ما فيه معنى يصرفونك والذي أوحي إليه هو القرآن هذا هو الوجه في تفسير الآية بما تعطيه معاني تراكيبها مع ملاحظة ما تقتضيه أدلة عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم من أن تتطرق إليه خواطر إجابة المشركين لما يطمعون.وللمفسرين بضعة محامل أخرى لهذه الآية استقصاها القرطبي، فمنها ما ليس له حظ من القبول لوهن سنده وعدم انطباقه على معاني الآية، ومنها ما هو ضعيف السند وتتحمله الآية بتكلف.ومرجع ذلك إلى أن المشركين راودوا النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يسويهم مع من يعُدّونهم منحطين عنهم من المؤمنين المستضعفين عندهم مثل: بلال، وعمار بن ياسر، وخباب، وصهيب، وأنهم وعدوا النبي إن هو فعل ذلك؛ بأن يجلسوا إليه ويستمعوا القرآن حين لا يكون فيه تنقيص آلهتهم، وأن رسول الله هم بأن يُظهر لهم بعض اللين رغبة في إقبالهم على سماع القرآن لعلهم يهتدون، فيكون المراد من {الذي أوحينا إليك} بعض الذي أوحينا إليك، وهو ما فيه فضل المؤمنين مثل قوله: {ولا تطرد الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي} الآية [الأنعام: 52]، أو ما فيه تنقيص الأصنام.وسمات التخرص وضيق العطن في معنى الآية بحاقّ ألفاظها بادية على جميع هاته الأخبار.وإذ قد ملئت بها كتب التفسير لم يكن بد من تأويل الآية بأمثل ما يناسب تلك الأخبار لئلا تكون فتنة للناظرين فنقول: إن رغبة النبي صلى الله عليه وسلم في اقترابهم من الإسلام وفي تأمين المسلمين، أجالت في خاطره أن يجيبهم إلى بعض ما دعوه إليه مما يرجع إلى تخفيف الإغلاظ عليهم أو إنظارهم؛ أو أرضاء بعض أصحابه بالتخلي عن مجلسه حين يحضره صناديد المشركين وهو يعلم أنهم ينتدبون إلى ذلك لمصلحة الدين أو نحو ذلك مما فيه مصلحة لنشر الدين، وليس فيه فوات شيء على المسلمين، أي كادوا يصرفونك عن بعض ما أوحيناه إليك مما هو مخالف لما سألوه.فالموصول في قوله: {الذي أوحينا إليك} للعهد لما هو معلوم عند النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما سأله المشركون من مخالفته.فهذه الآية مسوقة مساق المن على النبي بعصمة الله إياه من الخطأ في الاجتهاد، ومساقَ إظهار مَلَل المشركين من أمر الدعوة الإسلامية وتخوفهم من عواقبها، وفي ذلك تثبيت للنبيء وللمؤمنين وتأييس للمشركين بأن ذلك لن يكون.وقوله: {لتفترى علينا غيره} متعلق بـ {يفتنونك}، واللام للعلة، أي يفعلون ذلك إضمارًا منهم وطمعًا في أن يفتري علينا غيره، أي غير ما أوحي إليك.وهذا طمع من المشركين أن يستدرجوا النبي من سؤال إلى آخر، فهو راجع إلى نياتهم.وليس في الكلام ما يقتضي أن النبي عليه الصلاة والسلام همّ بذلك كما فهمه بعض الفسرين، إذ لام التعليل لا تقتضي أكثر من غرض فاعل الفعل المعلل ولا تقتضي غرض المفعول ولا علمه.و{إنْ} من قوله: {وإن كادوا ليفتنونك} مخففة من {إن} المشددة واسمها ضمير شأن محذوف، واللام في {ليفتنونك} هي اللام الفارقة بين {إن} المخففة من الثقيلة وبين {إنْ} النافية فلا تقتضي تأكيدًا للجملة.وجملة {وإذا لاتخذوك خليلًا} عطف على جملة {وإن كادوا ليفتنونك}.و{إذًا} حرف جزاء والنُّون التي بآخرها نون كلمة وليست تنوين تمكين فتكون جزاء لفعل {يفتنونك} بما معه من المتعلقات مقحمًا بين المتعاطفين لتصير واو العطف مع {إذا} مفيدة معنى فاء التفريع.ووجه عطفها بالواو دون الاقتصار على حرف الجزاء لأنه باعتبار كونه من أحوالهم التي حاوروا النبي عليه الصلاة والسلام فيها وألحوا عليه فناسب أن يعطف على جملة أحوالهم.والتقدير: فلو صرفوك عن بعض ما أوحينا إليك لاتخذوك خليلًا.واللام في قوله: {لاتخذوك} اللام الموطئة للقسم لأن الكلام على تقدير الشرط، وهو لو صرفوك عن الذي أوحينا إليك لاتخذوك خليلًا.واللام في قوله: {لاتخذوك} لام جواب {لو} إذ كان فعلًا ماضيًا مثبتًا.والخليل: الصديق.وتقدم عند قوله تعالى: {واتخذ الله إبراهيم خليلًا} في سورة [النساء: 125].{وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74)}.يجوز أن يكون هذا كلامًا مستقلًا غير متصل بقوله: {وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73] بناءً على ما نحوناه في تفسير الآية السابقة.وهذه منّة أخرى ومقام آخر من مقام رسول الله تجاه المشركين.ويجوز أن يكون من تكملة ما قبله فيكون الركون إليهم ركونًا فيما سألوه منه على نحو ما ساقه المفسرون من الأخبار المتقدمة.و{لولا} حرف امتناع لوجود، أي يقتضي امتناعًا لوجود، أي يقتضي امتناع جوابه لوجود شرطه، أي بسبب وجود شرطه.والتثبيت: جعل الشيء ثابتًا، أي متمكنًا من مكانه غير مقلقل ولا مقلوع، وهو مستعار للبقاء على حاله غير متغير.وتقدم عند قوله تعالى: {وتثبيتًا من أنفسهم} في سورة [البقرة: 265].وعدي التثبيت إلى ضمير النبي الدال على ذاته.والمراد تثبيت فهمه ورأيه، وهذا من الحكم على الذات.والمراد بعض أحوالها بحسب دلالة المقام، مثل {حرمت عليكم أمهاتكم} [النساء: 23].فالمعنى: ولولا أن ثبتنا رأيك فأقررناه على ما كان عليه في معاملة المشركين لقاربت أن تركن إليهم.واللام في {لقد كدت تركن إليهم} يجوز أن تكون لام جواب {لولا}، وهي ملازمة لجوابها لتحقيق الربط بينه وبين الشرط.والمعنى على الوجه الأول في موقع هذه الآية: أن الركون مجمل في أشياء هي مظنة الركون ولكن الركونَ منتف من أصله لأجل التثبيت بالعصمة كما انتفى أن يفتنه المشركون عن الذي أوحي إليه بصرف الله إياهم عن تنفيذ فتنتهم.والمعنى على الوجه الثاني: ولولا أن عصمناك من الخطأ في الاجتهاد وأريناك أن مصلحة الشدة في الدين والتنويه بأتباعه، ولو كانوا من ضعفاء أهل الدنيا، لا تعارضها مصلحة تأليف قلوب المشركين، ولو كان المسلمون راضين بالغضاضة من أنفسهم استئلافًا للمشركين، فإن إظهار الهوادة في أمر الدين تُطمع المشركين في الترقي إلى سؤال ما هو أبعد مدى مما سألوه، فمصلحة ملازمة موقف الحزم معهم أرجح من مصلحة ملاينتهم وموافقتهم، أي فلا فائدة من ذلك.ولولا ذلك كله لقد كدت تركن إليهم قليلًا، أي تميل إليهم، أي توَعدتهم بالإجابة إلى بعض ما سألوك استنادًا لدليل مصلحة مرجوحة واضحة وغفلة عن مصلحة راجحة خفية اغترارًا بخفة بعض ما سألوه في جانب عِظم ما وعدوا به من إيمانهم.والركون: الميل بالرُكن، أي بالجانب من الجسد واستعمل في الموافقة بعلاقة القرب.وتقدم في قوله: {ولا تركنوا إلى الذين ظلموا} في سورة [هود: 113]، كما استعمل ضده في المخالفة في قوله تعالى: {وإذا أنعمنا على الإنسان أعرض ونأى بجانبه} في هذه السورة [الإسراء: 83].وانتصب {شيئًا} على المفعول المطلق ل {تركن}، أي شيئًا من الركون.ووجه العدول عن مصدر {تركن} طلب الخفة لأن مصدر {تركن} وهو الركون فيه ثقل فتركه أفصح، وإنما لم يقتصر على {قليلًا} لأن تنكير {شيئًا} مفيد التقليل، فكان في ذكره تهيئة لتوكيد معنى التقليل، فإن كلمة شيء لتوغلها في إبهام جنس ما تضاف إليه أو جنس الموجود مطلقًا مفيدةٌ للتقليل غالبًا كقوله تعالى: {فلا تأخذوا منه شيئًا} [النساء: 20].و{إذن} الثانية جَزَاءً ل {كدت تركن}، ولكونها جزاء فصلت عن العطف إذ لا مقتضى له.فركون النبي صلى الله عليه وسلم إليهم غير واقع ولا مقارب الوقوع لأن الآية قد نفته بأربعة أمور، وهي: {لولا} الامتناعية.وفعل المقاربة المقتضي أنه ما كان يقع الركون ولكن يقع الاقتراب منه، والتحقير المستفاد من {شيئًا}، والتقليل المستفاد من {قليلًا}.أي لولا إفهامنا إياك وجه الحق لخشي أن تقترب من ركون ضعيف قليل ولكن ذلك لم يقع.ودخلت قد في حيز الامتناع فأصبح تحقيقها معدومًا، أي لولا أن ثبتناك لتحقق قرب ميلك القليل ولكن ذلك لم يقع لأنا ثبتناك.وجملة {إذا لأذقناك ضعف الحياة} جزاءٌ لجملة {لقد كدت تركن}.والمعنى: لو تركن إليهم لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات.ولِما في إذن من معنى الجزاء استغني عن ربط الجملة بحرف التفريع.والمعنى: لقد كدت تركن فلأذقناك.والضعف بكسر الضاد: مماثل مقدار شيءٍ ذِي مقدار، فهو لا يكون إلا مبينًا بجنسه لفظًا أو تقديرًا مثل قوله تعالى: {من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين} [النور: 30]، أي ضعفي ما أعد لتلك الفاحشة.ولما كان كذلك ساغ إطلاقه دون بيان اعتمادًا على بيان السياق كما هنا، فإن ذكر الإذاقة في مقام التحذير ينبىء بأنها إذاقة عذاب موصوف بأنه ضِعف.ثم إن الضعف أطلق هنا على القوي الشديد لعدم حمل الضعف على حقيقته إذ ليس ثَمّ عِلم بمقدار العذاب يراد تضعيفه كقوله: {فآتهم عذابًا ضعفًا من النار وتقدم ذلك} في سورة [الأعراف: 38].وإضافة الضعف إلى الحياة وإلى الممات على معنى في، فإن تقدير معنى في بَيْنَ المتضايفين لا يختص بإضافة ما يضاف إلى الأوقات.فالتقدير: لأذقناك ضعفًا في الحياة وضعفًا في الممات، فضعف عذاب الحياة هو تراكم المصائب والأرزاء في مدة الحياة، أي العمر بزوال ما كان يناله من بهجة وسرور بتمام دعوته وانتظام أمته، ذلك أن يتمكن منه أعداؤه، وعذاب الممات أن يموت مكمودًا مستذلًا بين كفار يرون أنهم قد فازوا عليه بعد أن أشرفوا على السقوط أمامه.ويشبه أن يكون قوله: {وضعف الممات} في استمرار ضعف الحياة، فيكون المعنى: لأذقناك ضعف الحياة حتى المماتتِ.فليس المراد من ضعف الممات عذاب الآخرة لأن النبي صلى الله عليه وسلم لو ركن إليهم شيئًا قليلًا لكان ذلك عن اجتهاد واجتلابًا لمصلحة الدين في نظره، فلا يكون على الاجتهاد عقاب في الآخرة إذ العقاب الأخروي لا يكون إلا على مخالفة في التكليف، وقد سوغ الله لنبيئه الاجتهاد وجعل للمخطىء في اجتهاده أجرًا كما قرر في تفسير قوله تعالى: {لولا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم} في سورة [الأنفال: 68].وأما مصائب الدنيا وأرزاؤها فهي مسببة على أسباب من الأغلاط والأخطاء فلا يؤثر في التفادي منها حسن النية إن كان صاحبها قد أخطأ وجه الصواب، فتدبر في هذه المعاني تدبر ذوي الألباب، ولهذا خولف التعبير المعتاد استعماله لعذاب الآخرة.وعبر هنا ب {ضعف الحياة وضعف الممات}.وجملة {ثم لا تجد لك علينا نصيرًا} معطوفة على جملة {لأذقناك}.وموقعها تحقيق عدم الخلاص من تلك الإذاقة.و{ثُم} للترتيب الرتبي لأن عدم الخلاص من العذاب أهم من إذاقته، فرتبته في الأهمية أرقى.والنصير: الناصر المخلص من الغلبة أو الذي يثأر للمغلوب، أي لا تجد لنفسك من ينتصر لك فيصدنا عن إلحاق ذلك بك أو يثأر لك منا.{وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76)} عطف على جملة {وإن كادوا ليفتنونك} [الإسراء: 73] تعدادًا لسيئات أعمالهم.والضمائر متحدة.والاستفزاز: الحمل على الترحل، وهو استفعال من فَزّ بمعنى بارح المكان، أي كادوا أن يسعوا أن تكون فازًا، أي خارجًا من مكة.وتقدم معنى هذا الفعل عند قوله: {واستفزز من استطعت} في هذه السورة [الإسراء: 64].والمعنى: كادوا أن يخرجوك من بلدك.وذلك بأن هَمُّوا بأن يخرجوه كرهًا ثم صرفهم الله عن ذلك ليكون خروجه بغير إكراه حين خرج مهاجرًا عن غير علم منهم لأنهم ارتأوا بعد زمان أن يُبقوه بينهم حتى يقتلوه.والتعريف في {الأرض} تعريف العهد، أي من أرضك وهي مكة.وقوله: {ليخرجوك} تعليل للاستفزاز، أي استفزازًا لقصد الإخراج.
|